أخبار وتقارير

التخطيط العمراني في المنطقة العربية: معركة جديدة

بينما يتزايد عدد المباني الفخمة ذات الواجهات الزجاجية والفولاذية يومياً في مدن الشرق الأوسط، والتي يصممها غالباً مشاهير المهندسيين المعماريين وتمولها الشركات متعددة الجنسيات المدعومة سياسياً، ولا يحلم سكان المدن الأصليين بالسكن فيها لأسعارها الباهظة، قد تعتبر أقسام الهندسة المعمارية والتخطيط العمراني في المنطقة هي آخر مكان يمكن أن يتصور أحدهم أن يجرى فيه نقاشات تتحدى الواقع الراهن وتبحث في حقوق المواطنين في مدنهم.

ولكن شكلت الموضوعات التي بحثها مؤتمر “حوارات المدينة”، الذي عقده قسم العمارة والتصميم في الجامعة الأميركية في بيروت الشهر الماضي، تحدياً لموجة التنسيق الحضاري التي تجتاح المدن العربية، وأعطت صوتاً للمعركة المتنامية بين النشطاء والنخب الحاكمة على المساحات العامة في المدن.

فبعيداً عن الخطابات الثورية الحماسية وتغيير النظم الحاكمة التي تردد صداها في الوطن العربي في السنوات الماضية، ناقش المؤتمر الأمور الأكثر قرباً لأحاديث رجل الشارع كالحاجة للمساكن متوسطة التكلفة، وللخدمات والأماكن العامة، بالإضافة إلى النقاشات الحامية حول المشروعات العقارية المثيرة للجدل، والحملات الشعبية التي تقاوم عمليات إخلاء المستأجرين دون حق، والتطورات النيوليبرالية، واحتكار الدولة لعملية اتخاذ القرار فيما يخص التخطيط العمراني.

وجه النقاش، عاصف بيات، أستاذ الاجتماع بجامعة إلينوي بالولايات المتحدة الأميركية، مشيراً إلى التحول الملحوظ في الكيفية التي تتم بها دراسة الانتفاضات العربية، والتوجه للاعتماد بشكل أقل على مساحات الفضاء التخيلي كمحرك للتغيير، وبشكل أكبر على استخدام المساحات الحقيقية في المدن. وقال “نحن نتحرك من التحول الرقمي إلى التحول المكاني في تحليل الثورة العربية.”

كما طرح بيات، المعروف بأبحاثه في مجال الإسلام السياسي، سؤالاً حول الكيفية التي ساعدت بها مدن المنطقة العربية على خلق “مواطنين متمردين” يحاولون السيطرة على المساحات العامة ويطالبون بحقوقهم. وناقش كيف تمرد المواطنون في الأماكن ذاتها التي صممت بصورة لا تسمح بحدوث احتجاجات، رغم استخدام الحكومات للطريقة الهوسمانية Hausmannian في التخطيط العمراني للمدن، والتي تتسم بإنشاء شوارع متسعة تسمح لقوات الشرطة بالانتشار السريع لاحتواء أي احتجاجات شعبية قد تحدث.

قدم بيات مثالاً من حياته الشخصية للتوضيح، حيث ذكر واقعة انتقال والداه من قرية صغيرة في الريف الإيراني إلى مدينة طهران الأكثر حداثة وشعور والدته بالتحرر نتيجة هذا الانتقال. ففي مدينة طهران تتوفر المياه النظيفة والكهرباء في المنازل، بحيث لم تعد بحاجة للقيام بالواجبات اليومية المرهقة من جلب الأخشاب والمياه للمنزل. بعد فترة وجيزة، شكى والده بسرعة من الحفر في الشوارع وبدت والدته غير راضية عن سوء الخدمات العامة. قال بيات “انتقالها للمدينة تبعه معرفتها لحقوقها كمواطنة،” موضحاً أن “أي انتهاك للحقوق المتوقع الحصول عليها من المرجح أن يواجه بالاعتراض.”

أين لنا الآن أن نرى نموذج أمثل لهذه النهج، حيث تقوم السلطات بالقضاء أو الحد من المساحات العامة المتاحة للجماهير؟ في القاهرة! 

ميدان التحرير بالقاهرة (Wikimedia Commons)

قامت السلطات بصورة متكررة بوضع الحواجز حول ميدان التحرير عقب اندلاع المظاهرات في 2011 ، ثم أنشأت نصباَ تذكارياً لانتفاضة 25 يناير، لكنه لم يبق مكانه سوى فترة قصيرة، ليتم استبداله بسارية عملاقة تحمل علم مصر.

مثال آخر وقع في البحرين، عندما تم تجريف دوار اللؤلؤة سيء السمعة، والذي خرجت منه البادرة الأولى لمظاهرات عام 2011 . أعطى بيات نماذج أخرى مشابهة في المنطقة العربية، مثل هدم النظام السوري لمدينة حماة بعد الاحتجاجات التي وقعت هناك عام 1982، مشيراً إلى أن تصاميم المدن العربية المستقبلية كالقاهرة الجديدة، تعج بناطحات السحاب لكنها تخلو من الأماكن العامة.

هل يمكن أن تقوم ثورة دون وجود “ميدان” لها؟ طرح السؤال سامي زمني، أستاذ العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة غنت في بلجيكا، وأجاب بأن التجمعات في الأماكن العامة ساعدت على إنشاء شبكات جديدة من الناشطين، فضلا عن “الوعي بأهمية التضامن بين الطبقات الغير مترابطة اجتماعياً.”

بعيداً عن المدن والميادين التي استحوذت على الاهتمام الأكبر، نجد مثالاً آخر في المغرب، على سبيل المثال، شارك المستأجرون الذين تم إخلائهم من مساكنهم في احتجاجات مطالبة باستعادة حقوقهم في العودة لها. استعرضت هذا المثال ثريا الكحلاوي، إحدى المتحدثات في المؤتمر، في فيلمها الوثائقي “المغاربة من غير الأرض”، وهي أيضا باحثة لنيل الدكتوراه منن جامعة EHESS في باريس. 

دوار اللؤلؤة (Wikimedia Commons)

من جهة أخرى، أشار أكثر من مشارك في المؤتمر من المغرب العربي، إلى مبادرة قام بها أحد المدرسين المغاربة تتضمن إنشاء صفحة على موقع فيسبوك للدعوة لاستعادة مساحة الرصيف التي يشغلها الباعة المتجولون وتحويل القضية إلى قضية وطنية ملحة.

قالت فرح النقيب، الأستاذ المساعد في الجامعة الأميركية في الكويت، إنه تم حظر خروج الاحتجاجات في البلاد منذ خمسينيات القرن الماضي، إلا أن الاحتجاجات الصغيرة تخرج بصورة مستمرة رغم تدمير الأماكن العامة المتاحة للجماهير، وتحويلها إلى مواقف للسيارات ومنتجعات شاطئية خاصة، ومشاريع عقارية حكومية في أعقاب الازدهار المصاحب لظهور النفطي.

وأوضحت النقيب أن ظهور حدائق مخصوصة وأسواق مؤقتة في أجزاء من المدينة يمثل شكلا من أشكال “التخطيط العمراني التعاوني غير المخطط له.”

وعلى الرغم من موافقة السلطات على إقامة حديقة عامة باسم “الحديقة السرية” في عام 2016، إلا أنها قامت مؤخراً بهدمها، مدعية فشل المتطوعين في الحفاظ عليها. وظهرت معركة أخرى في مدينة الكويت، بعد الإعلان عن خطة لهدم واحد من أقدم المراكز المجتمعية في المدينة، “بيت لوذان”، واستبداله بمركز تجاري يرتبط بالأسرة الحاكمة. إذ أثار هذا التحرك حملة إعلامية اجتماعية واسعة تقدم صورة مخذية للمطورين، مما يمثل “لحظة لم يسبق لها مثيل” للنقاش العام والخلاف حول رأس المال النخبوي.

ولعل أشهر هذه الانتفاضات الصغيرة المتعلقة بقضايا التخطيط العمراني في المنطقة العربية فقد وقعت في مدينة بيروت حيث عقد المؤتمر، والتي شهدت في السنوات الأخيرة مجموعة من الحملات الاجتماعية النشطة التي تقاوم مشروعات عقارية لكل من القطاع الخاص والدولة رغم تمرير مشروع إعادة الإعمار النيوليبرالي الضخم الذي حدث بعد الحرب الأهلية في لبنان.

لخصت منى حرب، أستاذ الدراسات الحضارية والسياسية بالجامعة الأميركية في بيروت، النجاح الذي حققته هذه الحملات الشعبية، بالإشارة لنجاح حملة وقف مشروع طريق البلدية في بيروت، والتي تم توجيه النقد له باعتباره مضر وهدام، وبما حققته حملة لإعادة افتتاح الحديقة الوحيدة في بيروت والمغلقة منذ عقود، وأيضا الحملة التي انطلقت لوقف بناء منتجع خاص يرتبط برئيس وزراء البلاد على آخر مساحة شاطئية عامة في مدينة بيروت.

وقالت حرب إن هذه الحملات كانت ناجحة بسبب تضامن الجهود المنظمة لجيلين من نشطاء بيروت، أمام خصومهم من نخبة غير منظمة سياسياً ترتبط في الأذهان “بسياسات حضرية عدائية” وبانهيار الخدمات العامة.

في الواقع، دفعت أزمة القمامة في البلاد في عام 2015 العديد من النشطاء إلى الخروج للشارع للتعبير عن غضبهم، في سلسلة من الاحتجاجات التي قمعتها الشرطة بعنف وألقت القبض على المئات. وفي أعقاب الحركة المدنية التي ظهرت في تلك الفترة، شكل عدد من المهنيين والأساتذة في بيروت المجموعة السياسية المعروفة باسم “بيروت مدينتي” والتي نافست فيما بعد في الانتخابات البلدية في الصيف الماضي.

حصلت المجموعة، التي تضم عدداً من أساتذة الجامعة الأميركية في بيروت بمن فيهم بعض الذين نظموا مؤتمر”حوارات المدينة”، على 30 في المئة فقط من الأصوات، وهو ما لا يكفي لتأمين أي مقاعد في مجلس البلدية، بحسب النظام الانتخابي الذي يعمل وفقه المجلس. مع ذلك، اعتبر ما حدث بمثابة انتصار للحراك الشعبي خاصة وأن هذه المجموعة المجهولة كانت تقريباً ضد التوجهات السياسية للنخب التابعة، والتي بقت في السلطة لعقود.

ومن المثير للاهتمام اختيار المنظمون لمؤتمر “حوارات المدينة” الصحفي الأميركي ثاناسيس كامبانيس لتقييم مشروع “بيروت مدينتي” في عرضه الذي قدمه في المؤتمر. ففي حين أثنى كامبانيس على المجموعة الفاعلة وراء المشروع، ووصفها بأنها “بارزة وملهمة”، إلا أنه أبدى تحفظاً على عدم قيامها بالدخول في مواجهة سياسية مع الأحزاب الحاكمة في البلاد، وهو ما اعتبره “فشل في الخيال السياسي”. وبحسب كامبانيس، فإن السبب وراء ذلك يتمثل بالشعور بالخوف حيث كان المشروع يستخدم استراتيجية “سنحاول التسلل والفوز، دون أن نغضب هؤلاء الذين يمكنهم سحقنا.”

لكن رؤية كامبانيس وجدت معارضة لها بين جمهور الحضور في المؤتمر. إذ قالت صوفي تشاماس، باحثة الدكتوراه في جامعة أكسفورد، إن مثل هذا التحليل يتجاهل استراتيجية مشروع “بيروت مدينتي” الجاد في الفوز بالناخبين في المناطق التي سيطر عليها لعقود الزعماء الإقطاعيين الطائفيين. وأضافت “أراد الناشطون إثبات إمكانيتهم الحصول على القليل من الأمور لكسب الثقة اللازمة للتعبئة الواسعة النطاق.”

ومن بين الانتقادات الأخرى المتكررة الموجهة لمشروع “بيروت مدينتي”، عدم تمكن من وقفوا وراءه من جذب الناخبين خارج الدوائر البرجوازية أو الطبقة المتوسطة في العاصمة اللبنانية رغم كون الحركات الأخرى التي أطلق عليها اسم “مدينتي” متواجدة خارج بيروت. قالت حرب “أعتقد أن علينا الأخذ بعين الاعتبار الحركات التي حدثت خارج بيروت، فهناك الكثير من الأمور تحدث خارج العاصمة.”

وبعيداً عن سياسة التوعية واستمداد القوة من الشارع، يبدو أن إحدى السمات المشتركة بين الحركات الحضرية الناجحة هي وجود محامين مهرة في فريقها. فقد شكل البحث الجيد، فيما يخص الأمور المتعلقة بالعدالة، ووجود مجموعة محامين ماهرين من مبادرة المفكرة القانونية ،عاملاً حاسماً في نجاح النشطاء في بيروت. إذ كشفت مجموعة “بيروت مدينتي” عن مخالفات قانونية ارتكبها أصحاب الأراضي والسياسيون ذوي النفوذ، وتم رفع دعاوى دستورية ضد الدولة للكف عن هذه الانتهاكات.كما ساعدت المبادرة في الدفاع عن المتظاهرين المعتقلين وإطلاق سراحهم.

قال المحامي نزار صاغية، من مؤسسة مبادرة المفكرة القانوني، “لقد اخترنا التقاضي الاستراتيجي، وأجبرنا الدولة على تقديم حججها بصورة قانونية.”

ونظراً لعدم تمكن المواطنين اللبنانيين من دخول البرلمان، فإن دور المحاكم في لبنان يبرز باعتبارها “واحدة من أكثر المؤسسات الديمقراطية” بحسب صاغية،  حيث يستطيع “أي مواطن” أن يسجل قضية تتحدى الرواية الرسمية.

قال “لقد فزنا بالعديد من الحالات، وفي بعض الأحيان لا نفوز لكننا على الأقل نتخذ خطوات إلى الأمام إيجاد تفسير منطقي لبعض القضايا.”

تبنت عدة منظمات مهنية استراتيجية مشروع “بيروت مدينتي”، على سبيل المثال نقابة المهندسين في بيروت، والتي يسيطر عليها مجموعة ذات انتماءات سياسية معروفة.

إلا أنه هذا العام ترشحت حملة أخرى بعنوان “نقابتي” في انتخابات إدارة النقابة وفازت بها. قاد الحملة جاد تابت، المهندس المعماري اللبناني البارز، والمعروف بانتقاده للطريقة التي تمت بها إعادة إعمار بيروت، وفاز بمنصب نقيب المهندسين بعد أن قدم برنامجاً انتخابياً يدعو إلى تمكين المجتمع المدني ومقاومة تدمير التراث والبيئة، ومعارضة التخطيط الضعيف. كما قال في خطابه الانتخابي إن دور النقابة لم يكن لفترة طويلة سوى تمرير المشاريع العقارية البارزة المرتبطة برأس المال السياسي “كانت النقابة رهينة للمصالح الطائفية… اليوم تعمل بشكل رئيسي كمكتب تسجيل لتصاريح البناء بين المهندسين وشركات التأمين. ودورنا يجب أن يخدم المجتمع ككل.”

أما عن بقية الموضوعات التي تناولتها جلسات النقاش في المؤتمر فتنوعت بين الكفاح ضد مخططات التنمية الليبرالية الجديدة، والتخطيط الحضري غير التشاركي، ومحو المجتمعات المحلية، وإحلال السكان الجدد الأثرياء مكان السكان الأصليين للمدن، وطُرحت في المناقشات أمثلة على التحركات الحضرية من تركيا وبولندا وأسبانيا والبرازيل.

قالت فواز “نحن في نظام إيكولوجي من المهندسين المعماريين المشاهير، إذا قمت بتصميم مبنى رائع ظهرت صور وسائل الإعلام، سيتم الاحتفاء بك علي نطاق واسع، بغض النظر إذا كان هذا المبنى قد تسبب في تشريد 100 أسرة أم لا.”

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى