مقالات رأي

لماذا تبدو العلوم الاجتماعية منفصلة عن الواقع

* تم نشر المقال أولاً باللغة الإنكليزية  في مجلة Items ، ويعاد نشرها هنا مترجمة بموافقة الكاتبة. 

لماذا نقوم بإجراء أبحاث في العلوم الاجتماعية؟ هل نقوم بذلك لنحصل على ترقية وظيفية أم لزيادة المعرفة الإنسانية؟ وإذا ما كنا ملتزمين حقاً بالهدف الأخير، فهل نحن على الطريق الصحيح؟

عندما كنت طفلة لأسرة من الطبقة العاملة، أصبت بالذهول عند معرفتي بأن بعض الناس لديهم ميزة القدرة على التفكير طوال اليوم. ولم يبارحني قط ذلك الشعور بالانبهار، لكن وللإستفادة من حكمة الرجل العنكبوت، فإن الإمتيازات العظيمة تأتي مصحوبة بمسؤولية كبيرة.

أنا أؤمن بالتفويض المهني، والالتزام العميق بوجوب تقديمنا للمعرفة لأننا حصلنا على إمتياز التمكن من قضاء أيامنا في التفكير. لكن ذلك لا يعني مجرد أن نكدح في عوالمنا الخاصة ثم نقوم بإلقاء المعرفة من برج عاجي. ولا يتعلق الأمر بجعل المواد متاحة وأن نأمل في أن يأتي الناس للاطلاع عليها فحسب. بل يتوجب علينا الانخراط بنشاط مع ذات الشعب الذين نسعى لفهمه، والمساهمة في خدمة المجتمعات التي نقضي بعض الوقت في دراستها. علينا أن نعاملهم باحترام ونفهم مسؤوليتنا الأخلاقية والمعنوية تجاههم.

إن واحدة من أصعب مراحل القيام بأبحاث في العلوم الاجتماعية تتعلق بإيجاد مسألة ذات أهمية. وكما أشار كينيث بريويت بحق في مقال نشره في آيتيمز Items، المجلة التي تصدر عن مجلس بحوث العلوم الاجتماعية، بعنوان “مسألة مهمة لمن؟”، فإنني سأضيف أيضاً، “وكيف تهم؟”، فبصفتنا باحثين، فإننا نقلق كثيراً بخصوص جودة ودقة عملنا. ويدفعنا ذلك أيضاً للتفكير “بتأثير عملنا”. ويمثل هذا على وجه التحديد السبب الذي يجعلنا ننتقل بسرعة إلى المقاييس عندما نفكر في المساءلة. للأسف، فإننا سنقضي بعد ذلك وقتاً أقل في التفكير بتأثير أسئلتنا نفسه، والآثار المترتبة لما نقدم على اختيار دراسته، والعمليات التي تؤثر على خياراتنا، والآثار الاجتماعية لطلب المعرفة.

لقد قال لي أحد الأصدقاء ذات مرة بأن الباحثين يدرسون أشياءاً تتفق مع اهتماماتهم. وهذا هو بالتحديد السبب الذي يجعلنا بحاجة لباحثين من خلفيات سياسية وثقافية وتجريبية متنوعة. وعلى الرغم من كون القوى من خارج الوسط الأكاديمي تؤثر في اتخاذ القرارات بخصوص ما يجب دراسته، فكذلك أيضاً تفعل الضغوط والحوافز المؤسساتية والتخصصية.

يرسم أول بحث لي صورة واضحة عن المكان الذي كنت فيه فيما يتعلق بهويتي ومركزي الوظيفي. كان المشروع معنياً بكيفية اعتماد عمق الأولويات على مستويات الهرمونات الجنسية في الجسم. كنت أعرف بأن علماء ومهندسي الكومبيوتر كانوا يتوجسون بشأن إحتمال واقع افتراضي ثلاثي الأبعاد، وقد عثرت على حاشية في تقرير قديم لسلاح الجو أشار إلى أن النساء شعرن بالتوعك في تجارب المحاكاة بمعدلات أعلى بكثير من الرجال. وبدأت ألاحظ إخفاق عالمات كومبيوتر من النساء في أداء مهام أساسية ثلاثية الأبعاد عند لعبهن لألعاب الفيديو مع غياب وجود تفسير يتعلق بقلة الخبرة لتفسير ذلك. وانتهى بي الأمر لملاحقة حدسي الداخلي والعمل في عيادة للنوع الجنسي لفهم كيف تغيرت رؤية الأشخاص الذين خضعوا للعلاج الهرموني التعويضي. وعلى طول خط البحث، علمت بأن البحوث الأساسية التي تقوم عليها أبحاث العمق كانت قد أجريت وبشكل حصري على الذكور الذين يرتادون الكليات، الأمر الذي اضطرني للقيام بإعادة إجراء الكثير من التجارب الرئيسية بهدف الوصول إلى سؤالي.

https://www.bue.edu.eg/

لقد تشكل طريقي البحثي، كما هو الحال مع معظم العلماء، من خلال السياق الذي كنت أعمل فيه. وبصفتي إمرأة غريبة تسعى لتسوية قضايا الجنسانية والهوية، فقد بدت أسئلتي حول الجنس طبيعية. كما أنني كنت عالمة كومبيوتر في ذلك الوقت، إلا أنني عرفت بأن أساليب علوم الكومبيوتر لا يمكن أن تساعدني على الإجابة عن سؤالي. لذلك، شرعت في الخوض في مسار أجبرني على تعلم علم النفس، والعلوم الإدراكية، ودراسات النوع الاجتماعي. نتيجة لذلك، فإنني بدأت معركة ستستمر مدى الحياة لتحديد هويتي التخصصية. فهل أنا عالمة اجتماع؟ أم عالمة أنثروبولوجيا؟ أم باحثة في دراسات الإنترنت؟ في أثناء المسيرة، سرعان ما أدركت بأنني قد أفسدت هويتي التخصصية كوسيلة لحسم مسألة هويتي الجنسية والجنسانية.

تعتبر التخصصات الأكاديمية قصيرة النظر بصورة وحشية، وتحكم على أي شخص يختار استكشاف مسار تحقيق يقع خارج الحدود المقبولة للمجال. وهذا الأمر نتيجة ثانوية لأزمات الهوية الوجودية المختلطة مع معارك التمويل والمشروعية. لم تكن العلوم الاجتماعية دائماً متعلقة بمجالات منفصلة في حالة حرب مع بعضها البعض. بمرور الوقت، قمنا بتضييق نطاق الأسئلة، وإمكانية طرح الأسئلة المهمة خارج الإطار الأكاديمي، وخارج حدود مجال تخصصنا. وهذا الأمر ليس جديداً بأي حال من الأحوال – فقد كان جزءاً من مسار طويل وشاق من الشرعية والمساءلة وإيجاد المعنى لما نقوم به. ولنأخذ بنظر الإعتبار هذا الإقتباس الشهير لإرفنغ غوفمان: “ليس لدي علاج عالمي لأمراض علم الاجتماع. لأن هنالك طيفاً من حالات قصر النظر التي تحدّ من النظرة الخاطفة التي نحصل بها من قضية موضوعنا. حيث أن تحديد مصدر واحد للعمى والتحيز على أنه السبب المركزي تفاؤلٌ جذاب. وأياً كان تركيزنا الدائم وأياً كان إقناعنا المنهجي، فإن كل ما يمكننا القيام به كما أعتقد هو الحفاظ على الثقة مع روح العلوم الطبيعية، والترنح الدائم، لأننا نخدع أنفسنا بجد في كون طريقنا يمتلك إتجاهاً مباشراً.”

لقد اعتبرت على الدوام تحدي غوفمان الحاسم لمختلف مجالات العلوم الاجتماعية محبباً لأنني أخشى أن تتركنا جديتنا كباحثين وإصرارنا على تبرير وجودنا في الغالب غير قادرين على السخرية من سخافة البنية التحتية التي قمنا ببنائها لتدعمنا. ولإدراك الدرجة التي نستحق بموجبها اللوم لكون العلوم الاجتماعية لا تهم في كثيرٍ من الأحيان.

إن حقيقة كون إجراء الأبحاث في الوسط الأكاديمي بالمقام الأول نتيجة ثانوية ساخرة للتفويض المهني. فقد أصبح الباحثون أساتذة لأنها تبدو كوظيفة طبيعية يمكنهم من خلالها التعليم. بطبيعة الحال، وفي هذه العملية، تحولت المهمة الأستاذية لمسؤولية تعليم الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم الـ 18 عاماً. وبسبب الطريقة التي قمنا بها بإعداد الجامعات، غالباً ما يُنظر إلى التعليم على أنه نشاط من الدرجة الثانية ومن دون مردود في التقييم في الوقت نفسه الذي تواجه فيه الجامعات ضغوطاً جادة لتكون أكثر اهتماماً بالطلاب. وبذلك حصلنا على حوافز مختلطة.

يزداد تشوش كل ذلك بفعل الطريقة التي يتم بها تخصيص خطوط أعضاء هيئة التدريس، مما يدفع الأساتذة للتنافس مع الأقسام الأخرى ومن ثم التنافس في أقسامهم، مع الإعتراف بأن المساقات بحاجة لأن يتم شغلها فضلاً عن وجود منافسة شديدة بين الأكاديميين على الوظائف والتمويل. ويدفع هذا، بدوره، طلاب الدراسات العليا الاستراتيجية لمتابعة القواعد المقبولة للتحقيق ووضع أنفسهم ليتم الحكم عليهم من قبل زملائهم بطريقة من شأنها أن تمنحهم مجداً مقبولاً. وبالتالي، سنصل إلى المشكلة ذات “الوحدة الأقل قابلية للنشر”، حيث لا يقوم الأشخاص فيها بأبحاث اجتماعية بسبب كونها مهمة للعالم، بل لكونها تتيح لهم شكلاً من أشكال الاستقرار الوظيفي.

لا تكمن المشكلة مع الوسط الأكاديمي كمكان للبحث في كابوس بنيته التحتية فحسب، بل في حقيقة أنه يعني بأن الأكاديميين يعيشون في عالم منعزل نسبياً. إن هنالك سبب يجعل معظم بحوث علم النفس تشمل إجراء التجارب على أشخاص في سن ارتياد الكليات. فيما يشتكي معلم علماء الأنثروبولوجيا بأن العمل الميداني ممكن حقاً عندما يكون المرء طالب دراسات عليا فقط بسبب المسؤوليات المترتبة على كونه عضو هيئة تدريس. فما هي التجارب الحياتية التي يمتلكها طلاب الدراسات العليا لتمكنهم من اختيار خط البحث؟ وعليه فليس مستغرباً أن يتابع الكثير من طلاب العلوم الاجتماعية المسائل المتعلقة بالهوية والجنسانية. فهذا هو المكان الذي يتواجدون فيه، وهو ما كنت أتواجد فيه أيضاً.

لكن إذا ما أردنا أن نكون على قدر من الأهمية، فإننا بحاجة للتفكير بشكل نقدي حيال الأسئلة التي نطرحها – والأسئلة التي لا يتم طرحها – وما الذي يؤثر في هذا التمييز. نحن نتلذذ بفكرة تقييم الأقران في كلٍ من التمويل والنشر، لكننا غير قادرين على الحكم على قصر النظر الجمعي الذي يصيبنا ونكون في موقف دفاعي كلما يسأل شخص عن طبيعة الهراء الذي نقوم به. نحن بحاجة لإيجاد سبل أفضل لتحديد – وبشكل جماعي – الأسئلة الهامة والجادة التي نطرحها، ومجالات القضايا التي تم تقصيها بشكل محدود، والمعرفة التي يحتاج إليها الجمهور.

تعتمد الأسئلة التي نطرحها وبشكل متزايد على الموضة والهواجس الخاصة بتخصصاتنا، وحياتنا الأكاديمية، والممولين المؤلفين من زملائنا الأكاديميين. لا يهمني إذا ما كانت مسائل العلوم الاجتماعية تهمنا كباحثين. فقد أصبحت باحثة لأنني أعتقد بأن المعرفة يمكن أن تجعل عالمنا أفضل. يمكن أن تكون العلوم الاجتماعية مهمة، لكن إذا ما كانت ستكون كذلك أم لا أمر يعتمد علينا.

عندما نعتقد بأننا نمتلك إحتكار حق طرح الأسئلة المهمة، فإننا نقدم لأنفسنا خدمة سيئة. إنه أمر خطير أن نعتقد بأن البحوث الأساسية تبدأ مع الأسئلة التي نجدها مهمة بدلاً من محاولة فهم المعرفة التي يفتقد المجتمع إليها. تشير مراجعة الزملاء إلى أننا الوحيدون الذين يتوجب عليهم إجراء صفقة حول إذا ما كانت الدراسة ذات قيمة كافية ليتم تمويلها أو نشرها. لن يتحقق التأثير الحقيقي من خلال السعي للبقاء في داخل برج عاجي. حيث يتطلب التأثير أن نكون متأصلين داخل العالم الاجتماعي الذي نسعى لفهمه وإدراك كون مفتاح النجاح يتمثل في الإعلام والتمكين من خلال المعرفة.

تحصل دعوات للمساءلة عندما يكون هنالك شك على نطاق واسع في قيمة ممارسة ما. ومن غير المجدي مقاومة المساءلة من خلال رفض المقاييس أو تحاشي الضغط. بدلاً من ذلك، يتوجب على علماء الاجتماع الانخراط في أعمالٍ جادة من التأمل الذاتي وسؤال أنفسنا عمّا فعلناه لنفقد ثقة الجمهور في السعي وراء المعرفة. ليست صرخات النخبوية، والنرجسية، والمحسوبية من دون سبب، حتى إذا ما كانت مثيرة للغيظ وتبدو في غير محلها. ففي مجتمع يتواجد فيه إنعدام مساواة ملحوظ وحراك اجتماعي هابط على نحو متزايد، فإن كل نظم السلطة تتعرض للهجوم. هناك إحباط متزايد لأن الممارسات التي كان يفترض أن تكون “من الشعب” تتم مصادرتها بأطر مهنية ونخبوية. أنا لا أرى بأن الحل يتم من خلال الالتفاف حول علوم اجتماعية للهواة، بل في أن تكون انعكاساً لما نقوم به فعلاً، وليس ما نقول بأننا نقوم به. لأننا كعلماء، كثيراً ما نتحدث بشكل أفضل مما نفعل.

إذا ما كنا نريد علوماً اجتماعية تهم، فإننا بحاجة لأن نكون أكثر عمقاً فيما يخص الأسئلة التي نطرحها، والبنى التحتية التي نبنيها، والحوافز التي نقبلها ونعززها. الخلاصة هي أننا بحاجة لأن نكون مسؤولين عن حصولنا على امتياز السعي وراء المعرفة. ومع هذا الامتياز، نحن بحاجة للتوقف عن التباكي بشأن كون الجمهور لا يفهمنا أو يحترم عملنا والبدء باستخدام معرفتنا العلمية الاجتماعية لكي نفهم ونقدر بحق السبب وراء ذلك. وبالطبع، قد لا نحب ما سنراه.

* دانا بويد، مؤسسة ورئيسة البيانات والمجتمع Data & Society، وباحثة رئيسية في شركة مايكروسوفت للأبحاث، وأستاذة زائرة في جامعة نيويورك. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى