مقالات رأي

تعلم اللغة العربية: أهمية العودة إلى الأساسيات

ليست “الممارسة، الممارسة، والممارسة” النهج الأكثر عصرية في التعليم في العالم اليوم. لكن عندما تبحث عميقاً لإلقاء نظرة على الطريقة التي يتعامل بها الناس مع المعلومات، فإن هنالك علامة إستفهام حول إذا ما كانت الإبتكارات الحديثة في المناهج التعليمية مناسبة حقاً للجميع أم لا.

إستثمرت دول الخليج بكثرة في مجال التعليم، وقد يتوقع أولياء الأمور والسلطات على حد سواء وبشكل معقول إنجازات كبيرة لطلابهم نتيجة لذلك. لكن ما السبب الذي يجعل طلاب الدول العربية، عندما يشاركون في تقييمات المقارنة الدولية، يسجلون درجات تقع في أسفل القائمة تقريباً في إختبارات القراءة، والرياضيات، والعلوم؟ من الممكن للملاحظات من داخل الفصول الدراسية في الدول العربية أن تقدم بعض الأجوبة.

من قطر إلى الكويت، تقدم المدارس في دول الخليج للأطفال أفضل ما يمكن من رعاية، فالمباني مصانة بشكل جيد ومدهونة بألوان زاهية، وتتوفر الفصول الدراسية على الكثير من المواد وبأحدث التقنيات. كما أن المعلمين متعلمين بدرجة كبيرة، ومدربين بشكل جيد، وعلى إستعداد لتقديم الدعم. وكما هو الحال في العديد من البلدان، فإن هنالك تركيزاً على الإبتكار بإستخدام المتعة، والحركة، والأنشطة التي تركز على الأطفال بهدف إشراك الطلاب.

لنأخذ على سبيل المثال، درس القراءة في اللغة العربية للصف الأول لمدرسة للبنات في إحدى المدن الخليجية. حيث تقوم المعلمة بجعل إحدى الفتيات ترتدي رداء من الأوراق المقصوصة لجعلها تبدو وكأنها شجرة، فيما تم قص أجزاء أخرى من الورق على شكل أوراق شجر وكل منها تحمل كلمات مكتوبة عليها. تقوم المعلمة بتسليم الأوراق للتلميذات، لينهضن بعد ذلك الواحدة تلو الأخرى لتعليق الأوراق ذات الكلمات بدبوس على رداء الفتاة-الشجرة. تستغرق العملية حوالي 15 دقيقة، وهي الفترة التي تكون فيها التلميذات متيقظات وسعيدات. لكنهن، وبعيداً عن قراءة كلمة واحدة، فإنهن لا يشاركن في مهمة تعليمية محددة.

كما يتكشف مشهد مماثل في إحدى الفصول الدراسية للصف الأول في دولة خليجية أخرى. حيث يقوم المعلم بعرض الكلمات بشكل خاطف من خلال عارض الوسائط المتعددة لتتم مطابقتها مع الحروف التي تتألف منها. يتقدم التلاميذ، واحداً تلو الآخر، إلى مقدمة الفصل لإكمال مهمة المطابقة أو كتابة الكلمات بإستخدام القلم، حيث تظهر الإستجابات على الشاشة. تستغرق العملية حوالي 10 دقائق، ويقوم التلاميذ الآخرون خلالها بالتصفيق عندما ينجح زميلهم في المهمة، لكنهم لا يحصلون على المزيد من الممارسة. وبعد ذلك، يقوم المعلم بعرض الجملة لهم ليقوم بعدها التلاميذ  بتكرارها عدة مرات بصوت عال. وبعدها يقوم الطلاب بنسخ الجملة في حين يشغل كومبيوتر الفصل المدرسي إحدى الأغنيات. ومن ثم يقوم المعلم بوضع رمل في أحد الأحواض، ويدعو التلاميذ لأخذ كرات صغيرة رميها على كلمات معينة. ويستغرق إعداد وتنفيذ هذا النشاط أيضاً حوالي 15 دقيقة، لتنتهي الحصة الدراسية بعد ذلك.

في الوقت نفسه، عندما تطلب من التلاميذ القراءة على إنفراد من الكتاب المدرسي الرسمي للصف الأول، فإنهم يتعثرون. سيكون بإمكانهم تكرار الجمل التي تم تقديمها لهم في وقتٍ سابق، لكنهم كانوا بطيئين في تحديد الكلمات أو الجمل الأخرى في كتابهم. وقد كان هذا في شهر نيسان/أبريل، أي قبل شهرين فقط من نهاية العام الدراسي الجاري. يتمكن طلاب الصف الأول ذوو المستوى المتوسط في دول مثل رومانيا وألبانيا من قراءة صفحات كاملة من كتبهم الدراسية، حتى إذا ما كانوا يقومون بذلك بتردد شديد. لكن المشرف على المنهج في الوزارة في تلك الدولة الخليجية قال إن الهدف هو أن تمكين التلاميذ من قراءة جمل منفردة فقط.

هل سيتمكن طلاب هذه المدارس الممتازة من تعويض ذلك في الصف الثاني أو في وقت لاحق؟ أثارت زيارة لدرس اللغة العربية للصف الرابع المزيد من الشكوك حول إمكانية تحقيق ذلك. تتطلب المناهج تعريفات للأشكال النحوية، وهي ممارسة شائعة في العالم العربي. يقرأ التلاميذ التعاريف ومن ثم يقرأون بصوت عال الجمل المكتوبة من قبل المعلم. كانت الكلمات بلا حركات، وقام الطلاب بالقراءة بتردد. يمتلك الجميع كتباً مدرسية، لكنها بدت وكأنها لا تستخدم إلا قليلاً. وقد شاركت عينات من هؤلاء الطلاب في التقييم الدولي PIRLS (الدراسة الدولية لقياس مدى التقدم في القراءة في العالم). في جميع أنحاء العالم، تتطلب المهمة قراءة مقاطع مؤلفة من 800-1000 كلمة والإجابة على الأسئلة. لكن خبراء التقييم يقولون إن طلاب الصف الرابع في بعض دول الخليج بإمكانهم قراءة مقاطع مؤلفة من 50-100 كلمة فقط.

يُعتبر الطريق للقراءة والرياضيات طويلاً بالنسبة للطلاب العرب. فمن السهل إكتساب اللغة العربية مع الحركات، تماماً كما هو الحال مع الخط اللاتيني للغة التركية أو الألبانية، لكن الحروف متعددة الأجزاء تبطيء من القراءة. والتقدم ليس خطياً، ففي نهاية المطاف تتم إزالة الحركات، ويتدهور مستوى الطلاب مؤقتاً لما يقرب من مرحلتين دراسيتين. تستخدم جميع البلدان اللغة العربية الفصحى، ولكن لا يتم التحدث بها في أي منزل. ويتوجب على الطلاب تعلم قواعدها المنطقية والمعقدة في الوقت ذاته والقيام بذلك بشكل منتظم في محاولة لفهم النصوص حتى في كتب الصف الأول. كما تعتمد الرياضيات أيضاً على المعرفة اللغوية السريعة والسلسة. وهذا يعني بأن على الطلاب العرب أن يدرسوا ويمارسوا ما درسوه بشكل مكثف في الصف الأول من أجل أن ينافسوا الدول الأخرى على نحو فعال عندما يصلون إلى الصف الرابع.

فأي الأنشطة بإمكانها تحقيق ذلك؟ بإمكان أبحاث إستغرقت أكثر من 100 عام حول إكتساب المهارات أن ترشدنا للطريق. بإختصار، يتوجب على الطلاب أن يتعلموا من خلال قراءة الحروف المنفردة، ويتوجب ممارسة ذلك في مجموعات لعدة ساعات. تسرع الممارسة في جميع المواد من عملية معالجة المعلومات، حتى يصبح الأداء سلساً وتلقائياً. يحرر هذا القدرات العقلية التي يمكن إستخدامها لفهم النص، والإنخراط في التفكير الرياضي، والتداول النقدي لمختلف المواضيع. لذلك، ينبغي إستخدام وقت التدريس لتحقيق أقصى قدر من الممارسة وتسريع الأداء.

مع ذلك، فإن الممارسات التعليمية في جميع أنحاء العالم على خلاف مع أساسيات التعليم. فنادراً ما تدرس كليات التربية العلوم الإدراكية، لذلك تكون السرعة والتلقائية غير مفهومة ومهملة. تبدو الأنشطة المبتكرة مثل رمي الكرات على الكلمات أكثر جاذبية من القراءة التلقيدية أو تمارين الرياضيات، لكن التمرين الذي يتم إستخدامه بصورة تقليدية كان بسبب إدراك المعلمين وعلى مدى قرون لقيمة الممارسة العملية. إن عملية التعلم محددة بيولوجياً، ولا تتغير قواعدها بحسب الطلب.

بالتأكيد، تلعب الأنشطة المبتكرة والممتعة دوراً في تنمية المهارات. في الواقع، تشير البحوث إلى أن قدراً أكبر من توليد الأفكار والإحتفاظ بها يمكن أن يتولد عندما يتم تعريض الأطفال لأحداثٍ غير مألوفة، مثل دمية تزحف على الجدار، لكن مثل هذه الأنشطة تلتهم الوقت في حين أننا بأمس الحاجة إليه. كما ستصبح المناهج مقيدة من أجل إفساح المجال لهذه الأنشطة. ومع ممارسة محدودة، سينتقل الطلاب إلى محتوى أكثر تعقيداً في دراستهم في حين أنهم لا يزالون يقرأون أو يجرون العمليات الحسابية ببطء شديد. وفي نهاية المطاف، من الممكن أن يصلوا إلى مراحل التعليم العالي مع معدلات قراءة تقارب تلك التي يمتلكها طلاب الصفوف ما قبل الأخيرة في المدارس الثانوية الإسبانية. يعبر بعض الأساتذة في الجامعة العربية المفتوحة، على سبيل المثال، عن قلقهم بشأن قدرة الطلاب على قراءة وفهم مجلدات من النصوص.

الوقوع في فخ الإبتكار؟

يؤثر هذا الوضع على البلدان في جميع أنحاء العالم. حيث أن أداء ملايين الطلاب في الإختبارات الدولية دون المستوى، ربما لذات الأسباب. لكن دول الخليج الثرية قد تكون وبشكل خاص عرضة للوقوع في فخ الإبتكار. فالبلدان التي يكون بإمكانها توفير ما هو أفضل هي التي يُرجح أن تقوم بتوظيف إستشاريين بارزين، وعادة ما يكونون من البلدان الناطقة بالإنجليزية. ومن المحتمل أن يكون هؤلاء المختصون لا يعرفون ولو كلمة واحدة من اللغة العربية، لكنهم يوصون بثقة بإتباع إستراتيجيات أكثر ملاءمة للغات البسيطة نحوياً، مثل اللغة الإنجليزية.

لفت الإهتمام بالتقييمات الدولية الإنتباه بخصوص مشكلة قراءة اللغة العربية. فمن دون تدريب مبكر ومكثف، من المحتمل ألا يكون الطلاب العرب قادرين على معالجة قدر أكبر من المعلومات كما هو حال طلاب اللغات والخطوط المكتوبة الأخرى. وهذا ما يوجب تركيز الجهود لدراسة كيفية إستغلال الوقت وتحسين ذلك على أفضل ما يمكن. من العبث أن نبحث عن تفسيرات إجتماعية أو إقتصادية لضعف أداء الطلاب العرب حتى تتم إعادة تشكيل المرحلتين الدراسيتين الأولى والثانية لتحقيق أقصى قدر من الممارسة للدرجة التي يمكن أن تصبح فيها مهارات القراءة تلقائية.

كيف نركز على الممارسة؟ بإمكان المعلمين أن يقوموا بدعوة كل طفل إلى السبورة، لكن، وفي الوقت نفسه، يمكن لهم أن يعطوا الزملاء في الفصل المدرسي نصوصاً ليقوموا بفك شفرتها، وتشجيعهم على إستكمال مهامهم. فيما يمكن أن تقتصر الأنشطة التي يتطلب إعدادها وتنفيذها الكثير من الوقت على مرةٍ واحدة في الأسبوع على سبيل المثال. وبعد أن يصبح التلاميذ قادرين على أداء المهارات الأساسية تلقائياً، سيكون لديهم المزيد من القدرات العقلية المتاحة للإنخراط في التفكير الإبداعي الأكثر تعقيداً. لذا، فإن بإمكان الإنخراط المبكر في التمرين والممارسة، وعلى عكس المتوقع – وعلى الرغم من كونه يبدو من الطراز القديم – أن يؤتي ثماراً كبيرة في مجال الإبتكار والتفكير النقدي في وقت لاحق.

غالباً ما يكون أولياء الأمور العرب قلقين للغاية، حيث أنهم يشعرون بأن عليهم توظيف مدرسين خصوصيين أو وضع أطفالهم في مدارس باللغة الإنجليزية على أمل أن يكتسبوا المزيد من المعرفة. وقد يرى البعض منهم بأن أطفالهم مصنفين على أنهم عاجزين عن التعلم، في حين أن كل ما يحتاجون إليه في الواقع هو قدر إضافي من الممارسة. فمن الوسائل التي يتوجب على أولياء الأمور إتخاذها في وقت مبكر مراقبتهم لسرعة القراءة. حيث يتوجب على الأطفال من الطبقة الوسطى، على أقل تقدير، قراءة اللغة العربية بالحركات بطلاقة بحلول نهاية الصف الأول. كما إن بالإمكان إستخدام الساعة لقياس عدد الكلمات بالدقيقة، على أن يكون الهدف الوصول لقراءة 45 كلمة في الدقيقة في نهاية الصف الأول من المدرسة. فيما يشكل الفهم تحدياً مختلفاً قليلاً، حيث يحتاج الطلاب لفهم أشكال اللغة العربية الفصحى بسرعة ودقة، ومن الوسائل السهلة التي تُمكن الدماغ من تحقيق ذلك القيام بتعلمها بشكل منهجي. وإذا ما بقيت النتائج غير مرضية، فبإمكان أولياء الأمور مناقشة المعلمين حول كيفية إتخاذ الإجراءات اللازمة.

تمجد العديد من مقالات الإنترنت فضائل الإبتكار، لكن القليل منها يقدم أدلة علمية على أن الإبتكار في حد ذاته مفيد بالنسبة للطلاب. لعل الإبتكار الأكثر أهمية يتمثل في تطبيق نتائج البحوث في مجال التعليم. فمن أجل أن تستحق منحها وقت الفصول الدراسية، يجب أن يثبت كون الأنشطة فعالة – أو غير ضارة على أقل تقدير. وفي الوقت الحاضر، لا يبدو بأن هذا هو الحال في التعليم العربي.

*هيلين عباءجي عالمة نفس يونانية تجيد التحدث بعدة لغات. تقاعدت من البنك الدولي بعد 27 عاماً من الخدمة وتعمل حالياً كباحثة ضمن أعضاء هيئة تدريس جامعة تكساس في كلية أرلينغتون للتربية. تهتم هيلين برصد الأبحاث الجديدة في مجال العلوم الإدراكية وتسعى لجمع إكتشافات الأبحاث ذات الصلة لشرح الإمكانات المحتملة والنتائج المرتقبة من مختلف الإتجاهات. وقد ساعد عملها في وضع قضية إجادة القراءة في المراحل العمرية المبكرة على قائمة الأولويات الدولية.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى