مقالات رأي

باحث عراقي يدافع عن التنوع وسط ظروف حرجة

يبدو أن التنوع الثقافي والعرقي في العالم العربي يمتلك القليل من الأبطال المدافعين عنه، لاسيما في العراق.

قبل عام من الآن، سقطت الموصل بيد تنظيم الدولة الإسلامية. وتعرضت العديد من المواقع الدينية والتاريخية في شمال غرب العراق للتدمير. وفر الآلاف من أبناء المجموعات العرقية والدينية العراقية، بما في ذلك الأيزيديين، من مواطنهم التاريخية.

لكن سعد سلوم، الأكاديمي العراقي الذي يدرس العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية ببغداد، يعتبر مناصراً ومدافعاً عن التسامح، والتراث الثقافي، وحقوق الأقليات.

يترأس سلوم مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية، منظّمة غير ربحية متخصصة بدراسة الأقليات، والذاكرة الجماعية وحوار الثقافات. كما أنه عضو في جمعية الدفاع عن حرية الصحافة في العراق، والتي تلقت وسام الجمهورية الفرنسية لحقوق الإنسان للعام 2009. نشر العديد من الأعمال منها، آفاق ومستقبل المجتمع المدني في العراق، والمصالحة والتعايش في عراق الصراع، وواقع المرأة في عراق ما بعد التغيّير. كما ساهم في تأسيس المجلس العراقي لحوار الأديان.

إلتقت الفنار للإعلام بسلوم، الباحث الناشط على الصعيد الدولي، عبر الهاتف هذا الصيف. كان سلوم مرحبّاً على الرغم من قلقه بشأن المستقبل. وبقيت ضحكته حاضرة لتطفو فوق نهر مطّرد من الأخبار المريرة التي تأتي من العراق هذه الأيام.

كيف تنظر للتنوع في العراق؟

التنوع في العراق والمنطقة بشكل عام، كما أراه، هو رأس المال الثقافي الخاص بها. فهو ما يغذي هذه المنطقة ثقافياً. العراق معروف عالمياً بإسمه التاريخي، بلاد ما بين النهرين. لكنني أعتقد بأنّنا نمتلك نهرين إضافيين هما النفط والتنوع الثقافي. والأخير، على عكس الأنهار وحقول النفط، لن يجف أو ينضب. إن هذا التنوع هو رأس مالنا الثقافي المشترك الذي يمكن أن يساعدنا في بناء هوية وطنية مشتركة.

هل يمكن أن تخبرنا عن “نهاية التنوّع في العراق”؟

إنّ ما حصل يعتبر إبادة ثقافية. فقد إضطر أناس عاشوا معا طوال عشرات القرون إلى الرحيل. وتعرضت مواقع تاريخية ومزارات مقدسة للتدمير. وتم إحراق الكثير من المخطوطات القديمة. داعش هي الحلقة الأخيرة والختامية. لقد عاش الشبك في سهل نينوى لأكثر من 500 عام، وهويتهم ترتبط بالكامل بالأرض والبيئة هناك. لقد تم إقتلاعهم الآن. إنها عملية إقتلاع ثقافي تساوي قسوة الإبادة الجماعية للأرمن. لقد كان سهل نينوى نموذجاً رائعاً للتنوع، حيث عاش المسيحيون، والمسلمون، والأيزيديون، والآشوريون، والكلدان، والشبك، والكاكائيين، والأكراد، والعرب معا لأكثر من عشرة قرون. لقد ذهب كل ذلك في مهب الريح في أعقاب تسونامي داعش.

كيف أثار موضوع التنوع إهتمامك؟

أنا أمتلك خلفية روائية. لقد شكلت أدواتي من خلال كتابة الروايات والقصص القصيرة. كنت مولعاً بإكتشاف الآخر إجتماعياً ونفسياً. كان العراق كوناً غير مكتشف بالنسبة لي. فوجدتُ نفسي فضولياً لإستكشاف المزيد عن البهائيّين – الذين عاشوا في العراق بسلام قبل سبعينيات القرن الماضي. أين ذهبوا الآن؟ وأن أعرف المزيد عن الأيزيديين في العراق، على سبيل المثال. لقد دفعني ذلك حريصا على إستكشافهم ميدانياً لأن الكثير من الكتب التي تتكلّم عنهم كرست الكثير من المعلومات الخاطئة. تدريجياً، تحول التوق للإستكشاف إلى إيمان راسخ بأهمية الحفاظ على هذا التنوع بإعتباره صمام الأمان الذي يحفظ وحدة العراق.

ما هي أسباب تراجع التسامح “في المنطقة”؟

لا يمكننا الإجابة على هذا السؤال من دون السياقات الدولية – كإنهيار الكتلة الإشتراكية، وسقوط حلم العدالة الإجتماعية، وفشل نموذج الدولة الوطنية مع كل وعودها في تحقيق التنمية والمساواة. كل ذلك أدى لصعود أشكال جديدة من التدين كحلول بديلة. للأسف، ظهرت نسخة إسلامية تختلف عن النسخة المعتدلة التي عرفناها في خمسينيات القرن الماضي، عندما كان كل الناس يعيشون معاً بسلام، بسبب أموال النفط. حتى بالنسبة للإسلام السني، فبإمكاننا ملاحظة كيف يتم إستبدال الصوفية والمذهب المعتدل للإمام أبو حنيفة بالسلفية المتطرفة. إنه ما كتب عنه أوليفيه روا في كتابه “الجهل المقدّس” عام 2010 عندما وصف ديناً من دون أي محتوى ثقافي. كما تساهم وسائل الإعلام في تشكيل العقول والقلوب من جديد، لتختزل المنطقة بصورة الصراع السني-الشيعي، متجاهلة كل التنوّع الثقافي في المنطقة.

هل تم إحراق كتابك “المسيحيون في العراق” من قبل إرهابيي تنظيم داعش؟

في العادة نقوم بطباعة كتبنا في سوريا، ومن ثم يتم نقلها بواسطة شاحنات تمر عبر محافظة الأنبار وصولاً إلى بغداد. يفرض تنظيم داعش ضريبة قدرها 300 دولار أميركي على كل شاحنة. كنت قد طبعت 2000 نسخة من ذلك الكتاب، وكنت قلقاً بسبب الأوضاع الأمنية في حزيران/يونيو من عام 2014. في ذلك الوقت، كنت أحضر مؤتمراً عن “حرية الدين والمعتقد” تم عقده في مندى “دار عبادة” الصابئة المندائيين في بغداد بحضور الدكتور سليم الجبوري، رئيس مجلس النواب العراقي. فقررت أن أرسل 1000 نسخة عن طريق البحر و1000 نسخة في الشاحنات. نادراً ما يكترث تنظيم داعش للكتب، وغالباً ما نقوم بتغطية الكتب بنسخ من القرآن فوق الشحنة. نسمي ذلك “خدعة القرآن”. للأسف، تم تفتيش الشاحنة والعثور على الكتب التي تحمل أغلفتها صور للصليب ونجمة داوود، فتمت مصادرتها.

ما الذي تقوم به مؤسستك، مسارات في سبيل تعزيز قيم التسامح؟

مسارات منظمة غير ربحية عمرها 10 سنوات تركز على الأقليات، ودراسات الذاكرة الجماعية، والحوار بين الأديان… لدينا مجلّة، صدر العدد الأول منها عام 2005. لكننا أدركنا بأن السينما قد تكون أكثر فاعلية في نشر رسالتنا، ولهذا عملنا على إنتاج أفلام وثائقية حول التنوع، والآن نحن نمتلك تسعة أفلام لمناقشة القضايا التي يتم تجاهلها في هدف يسعى لتأسيس “سينما المجتمع المدني”.

هل الجمهور واع لخطورة خسارة المجموعات الدينية والعرقية المتعددة في العراق؟

المشكلة هي فكرة لإضطهاد الشائعة في العراق. فعندما تتحدث عن حقوق الأقليات، يقول الناس “وماذا عنا؟” حسنٌ، أنا أتكلم عن أهمية التنوّع وليس عن طائفة معينة على وجه الخصوص. أغلبية الناس تعمل كممثّلين كومبارس على المسرح. هنالك خضوع لمبدأ القضاء والقدر، والكثير منهم سلبيون. هنالك وعي عام، ولكنه ليس كافياً ليرقى لمستوى العمل. إنها أزمة نخب. ولهذا السبب إنتقلت للعمل ميدانياً، وتغيير مناهج عملي. فعملت على تشكيل لوبي من الزعماء الدينيين المؤثّرين للمساعدة في نشر أفكارنا عن التسامح. فإذا ما كان في مقدوري التأثير في 100-3000 شخص كحد أعلى، فإن في مقدور رجل دين مؤثّر أن يؤثّر في ملايين الأشخاص. لقد عملت مع شباب رائعين من نشطاء المجتمع المدني الممتلئين بالنشاط والأمل. فقمنا بتشكيل ما أسميناه سفراء المواطنة من أجل تعزيز التعايش.

هل لديك رؤية تصور للحفاظ على التنوع؟

نعم، فكتابي “التنوع الخلاق” الذي نشرته عام 2013 هو بمثابة خارطة طريق لتعزيز التعددية في العراق. إنه ليس عملاً نظرياً بل تطبيق عملي. هنالك أربعة طرق للحفاظ على التنوع. أولا، التشريع: إنه أداة لتسريع التحول نحو مجتمع متسامح. دائماً ما أعطي الولايات المتحدة الأميركية كمثال، ففي ستينيات القرن الماضي، كان التمييز ضد المواطنين السود واضحاً، والآن لديهم باراك أوباما كرئيس للبلاد. هذه ليست معجزة، بل ثمرة سنوات من نضال نشطاء الحقوق المدنية ورجال الدين، مثل مارتن لوثر كينغ. بإمكان التشريعات أن تختصر الطريق، وتحقق ما يمكن تحقيقه من خلال 100 عام من النضال. ثانياً، دور الحوار بين الأديان. قد يكون رجال الدين جزءاً من المشكلة، ولكن بإمكانهم أن يكونوا جزءاً من الحل أيضاً. ثالثاً، إيجاد مناهج دراسية تتناسب مع مجتمع متعدّد الثقافات.

في دار العلم للإمام الخوئي في النجف، إقترحنا تدريس اللاهوت المسيحي من خلال رجل دين مسيحي متخصص في اللاهوت، وليس من خلال رجل دين مسلم كما كان يتم في السابق. ستفتح المؤسسة، التي تدرّس علم الأديان المقارن في مبنى كبير مؤلف من 14 طابق، أبوابها في غضون أشهر قليلة.

رابعا، الشباب هم الجسور بين مكونات مجتمعنا. ولهذا بدأت مشروع سفراء المواطنة، حيث قمت بإختيار 20 شاب وشابة من مختلف المجموعات العرقية والدينية، وجعلتهم يعيشون معاً ليكتشفوا بعضهم البعض. لقد جلبنا أشخاص من محافظة الأنبار ليعيشوا في الكوت، وأخذنا المسلمين لزيارة كنيسة ومندى للصابئة، وأخذنا المسلمين والمسيحيين ليزوروا المعبد الأيزيدي في لاله ش، أو حتى ليعيشوا من المواطنين السود في الزبير في البصرة. وسيقوم كل من العشرين مشترك بإختيار عشرين آخرين، ويقوموا بتجربتهم الخاصة معا. بهذه الطريقة، يمكننا أن ننشر التسامح والفهم بصورة أفضل في عموم المجتمع.

مع حلول الذكرى السنوية الأولى لمأساة تهجير السكان من سنجار وسهل نينوى، هل أنت متفائل بشأن مستقبل التنوع في العراق؟

لستُ متفائلاً على الإطلاق، لكنني لست متشائماً أيضاً. أنا لا أفكر وفقاً لهذه الثنائية. لا يمكننا أن نعيش من دون الأمل، ويتوجب علينا أن نحافظ عليه حتى وإن كان بمثابة شمعة صغيرة. أنا أحارب بسيوف من زجاج. نحن نقوم بما لا تقوم به الحكومة لأنها لا تمتلك الرؤية للقيام بذلك. نحن نقاتل ضد مصالح دول دولية وإقليمية عظمى. نحن نشابه تماماً دمية تقاتل وحوشا تهدف للهيمنة على خشبة المسرح. دائما ما أقول، “في العراق، الأمل ليس خياراً، بل أسلوب حياة.”

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى