مقالات رأي

برطعة الخراتيت وهجرة الطيور!

“عندما تبرطع الخراتيت تهاجر الطيور“… لست متأكداً ما إذا كان هناك مثل صيني يقول هذا المعنى. لكنك لست في حاجة لمثل صيني يؤكد المعنى الذي تعيشه وتلمسه حولك كثيرا هذه الأيام، خاصة وأنت تودع صديقاً أو قريباً عثر على فرصة للخروج من مصر إلى بلاد يشعر فيها باحترام آدميته وكرامته، ويتوقع فيها عندما يصيبه أي أذى مما يحدث للناس في بلاد الله المتقدمة، أنه سينال الإنصاف ممن ظلمه، وأن من ظلمه سينال عقابه القانوني، بدلاً من انتظار عدالة السماء التي كان آخر حظنا بها نزولها على ستاد باليرمو الدولي.

لا يبدو “القامطون“ على مقاليد الحكم مشغولين بأي ممن تركوا لهم البلاد أيا كانت خبرتهم الفعلية أو أيا كان نفعهم المفترض. فهم يعتقدون أنه لو كان في هؤلاء خير لهم لما رماهم الطير المهاجر في البلاد الغربية. ولعلهم يقولون لأنفسهم لماذا الأسى على خسارة نفع هؤلاء إذا لم يكونوا قد قرروا أن يجعلوها في الخدمة وتحت الطلب، بل وربما اتهموهم بالخيانة لأنهم تركوا وطنهم سخطاً على عودة الماضي الكريه واستسهال إهدار كرامة الإنسان وسيادة الإنحطاط الإعلامي الذي يزيد الواقع كآبة وقتامة. فعندما يحكم الجنرالات يتحول موقعك المفترض كمواطن إلى جندي يمشي بالخطوة السريعة إن أراد القائد، وتقف في وضع الانتباه إن أحب، وتنال نصيبك من التكدير وأورنيكات الذنب والجزاءات الصاعقة تبعاً لمزاج سيادته. 

عقب ثورة 25  يناير مباشرة، كان مألوفاً بالنسبة لي أن التقي في الدول التي أسافر إليها بمصريين مهاجرين يحدثونني عن قرارهم بالعودة العاجلة إلى مصر ليساهموا في بنائها وإصلاح أحوالها. وقتها كانت روح دهن الأرصفة وتنظيف الشوارع قد عبرت شرقاً وغرباً محرضة الطيور المهاجرة على التفكير بالعودة إلى بلادها، حتى لو كان ذلك على حساب ما حققوه من مكاسب في غربتهم الطويلة.

لا زلت أحتفظ في بريدي الإلكتروني برسائل عديدة من مصريين مهاجرين يسألون عن أولويات تحتاج لدعمهم بعد عودتهم إلى مصر، بل ويسأل بعضهم عن الأحزاب السياسية الجديدة التي نشأت من رحم الثورة والتي لا يمتلكون معلومات وافية عنها، لكنهم يفكرون في الإنضمام إليها بعد عودتهم.

كانت روحاً حية ظللت ألمسها نابضة ومتوهجة بالرغم مما كان يدور في البلاد من عك سياسي، إلى أن جاءت مذبحة ماسبيرو وما تلاها من مذابح ومهازل تسبب فيها صراع الخراتيت الغبية على ما بأيديها من مكاسب أو على ما تحلم به من المزيد من المكاسب. أهلك الصراع الأخضر واليابس، واندهست تحته أشياء كثيرة كلها ثمينة، لكن أثمنها على الإطلاق كان الأمل العام في إصلاح قريب للأحوال. والمؤسف أنك مهما حاولت إقناع من فقدوا ذلك الأمل بأن ما يرونه حولهم أمر حتمي الحدوث في أعقاب الثورات الشعبية، إلا أن ذلك لا يمكن أن يدفعهم للتضحية بأبسط مقومات حياتهم. خاصة مع عدم ملامستهم لأي رغبة صادقة من غالبية الشعب في مخاصمة الماضي اللعين وتغيير الواقع الكئيب وصنع مستقبل أفضل ظناً منهم أن عودة الماضي ستضمن مستقبل أولادهم. فكيف نلوم إذن من يفكر في الحياة في بلد تحترم آدميته وتصون كرامته وتضمن مستقبل أولاده.  

لا أعتقد أنني قادر على التعبيرعن خطورة تنامي ظاهرة هجرة العقول المصرية وخصوصا الشابة منها، بنفس الصدق الموجع الذي قرأته في تدوينة قصيرة نشرتها أم مصرية مؤخراً. فقد كتبت السيدة حياة مخلص جاد  تحت صورة نشرتها وهي تحتضن ابنها الشاب المسافر إلى خارج مصر. “دي صورة ابني وهو بيودعني وهو رايح المطار على كندا من 11 شهر، هاجر وساب البلد وللأسف ما عنديش ولد تاني يعوضني عن عدم وجوده، من كام يوم اتصل بيا قلت له وحشتني يا أحمد حترجع امتى مش كفاية كده؟ رد وقالي: إنسي ياماما أنا مش راجع البلد دي تاني هو أنا مجنون أنا عاوز يبقى عندي عيال يلاقوا عيشة نظيفة ويتعلموا صح ويتربوا صح، أنا لو رجعت مصر لو ما اتقتلتش هاتسجن، ولو ما اتسجنتش حاعيش صايع مالوش مستقبل، قلت له: طيب أنا هاعمل إيه؟، قال لي: حابقى أبعت لك تيجي تقعدي معايا. الكلام وجعني قوي، وحسيت خلاص إن ابني راح مني، بس في نفس الوقت، حسيت إن ده حال معظم الأمهات في مصر، بنفقد أولادنا إما شهداء أو معتقلين أو تايهين ومحبطين أو دايخين وبيشتغلوا وطالع عينيهم وبردو مش عارفين يعيشوا، على الأقل ابني عايش ومبسوط بس أنا اللي مش مبسوطة، ده قدري إني أم مصرية، وربنا يصبرنا وينتقم من اللي كانوا السبب“.

للأسف لا يبدو أن مشاعر السيدة حياة تشغل الكثيرين ممن يحلمون بالتخلص ممن يختلفون معهم في الرأي، وينظرون للديمقراطية بوصفها وسيلة تتيح لك أن تنتصر في الإنتخابات لتقول بملء فمك لمن يعارضك “واللي مش عاجبه يهاجر كندا” أو“روحوا تركيا بقى وحلوا عن سمانا“، “اذهبوا إلى أي بلد تحبونها لكن اتركوا لنا بلادنا نعيش فيها على هوانا دون أن نسمع رأياً يعارضنا أو يضايقنا أو يربكنا؟“.

لا يشعر هؤلاء بأن هجرة ابن السيدة حياة مشكلة تخص كل مواطن مصري، فما بالك ونحن نتحدث عن رحيل مئات الآلاف من كافة أنحاء مصر، من بينهم علماء في كافة التخصصات يصل عددهم إلى 86 ألف عالم طبقاً لآخر إحصائية صدرت قبل أشهر من الإتحاد العام للمصريين في الخارج. من بينهم أيضاً عمال كانت البلاد أولى بعرقهم وكدحهم. بالطبع بعضهم امتلك الحظ الذي جعله يسافر بشكل شرعي بعد أن حصل على فرصة عمل أو منحة تعليم. لكن الكثيرين اضطروا إلى بيع ذهب أمهاتهم وإنفاق مدخرات آبائهم ليضعوا أجسادهم في مهب رياح البحر داخل قارب هجرة غير شرعية يمكن أن يوصلهم إلى أي مكان يأمنون فيه على حياتهم وحريتهم وأحلامهم.

لا أريد أن أنهي حديثي بكلام حالم يبشر بعودة الطيور المهاجرة حتماً ولزماً بعد أن يدرك الناس إفلاس الخراتيت وبعد أن يسئموا من برطعتها في جنبات البلاد وقطعها لأرزاق العباد. فلا أخطر علينا من الأمل السهل الذي لن يكون إلا بمثابة مخدر يلهينا عن حقيقة مؤلمة هي أنه حتى الآن لا توجد قناعة واضحة ملموسة لدى حكام مصر ولا لدى أغلبية شعبها بأن مصر بحاجة إلى كل فرد من أبنائها مهما كانت قناعاته الفكرية والسياسية مختلفة عما هو سائد. إن غياب هذه القناعة وعدم وجودها في القرارات السياسية وفي مجمل الخطاب الإعلامي وفي التفكير الشعبي السائد، يعني أن  الحديث عن الأمل خداعاً للنفس يفترض ألا ترضاه لأمك ولا لأختك ولا لشعبك.

لكن ذلك لا يعني آلا نعمل من أجل إيجاد تلك القناعة كل بما يملكه أو يقدر عليه، لأن ذلك هو وحده طريقنا نحو بداية الخلاص.

يدّينا ويدّيك طولة البال والأمل. 

.بلالفضلكاتبسيناريووصحفيمصري *

Countries

‫4 تعليقات

  1. والنبي ياجدعان بلاش أفورة بلا طيور مهاجرة بلا ***،الناس دي عملت الصح بسفرهم وإنهم يسيبوا البلد المخروبة دي،النغمه بتاعة بلدنا أولى بينا دي جابت ناس كتير ورا والله…اللي سافر يبقى هنياله ويستحسن يكمل حياته برة ومايبصش وراه تاني واللي لسه ماسافرش ربنا يكرمه ويخرج من القرية الظالم أهلها اللي عايشين فيها دي

  2. مش عاجبك سيبها وسافر الباب يفوت جمل … اتقالتلي كتير اوي قبل ما اسافر الجمله دي واديني بقالي 6 شهور مسافر ويستحيل افكر اعيش فيها تاني باي حال من الاحوال …. بعد ما عرفت بره ان أنا إنسان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى