أخبار وتقارير

لاجئات سوريات يعيدن إحياء الدراما اليونانية

عمان- ترتدي حجابًا أسود لا تظهر منه سوى عيناها، تجلس ميساء أحمد على مقعد فوق خشبة المسرح. تحيط بها مجموعة من السيدات يرتدين الحجاب في شكل صورة مظللة أُضيئت على خشبة المسرح. فوقها، شاشة فيديو معلقة في السقف تعرض صورة مقربة لوجهها الملثم.

تقول الفتاة: “إلى اللقاء حبيبتي… إلى أين تأخذني هذه السفن بعيدًا عن أرضي؟”

تلعب ميساء، اللاجئة السورية التي تبلغ من العمر 25 عامًا، دور الأميرة كاساندرا في “نساء طروادة” ليوريبيديس؛ حيث احتل الجنود اليونانيون مدينتها وأحرقوا جدرانها وقتلوا رجالها وأسروا نسائها.

وقُدر على كاساندرا أن تؤخذ سبية.

“وداعًا أمي، لا تبكي. يا وطني العزيز، آه يا إخوتي تحت الثرى، آه يا أبي، لن تنتظروني طويلًا.”

في عام 415 قبل الميلاد، كتب يوريبيديس عمله الدرامي الشهير عن الحرب والدمار والأسى الشديد الذي عانت منه أربع سيدات، متأثرًا باحتلال أثينا الدموي لجزيرة ميلوس خلال الحرب البولوبونيسية. بالنسبة لميساء، بدى الأمر كما لو كان الكاتب المسرحي يصف الحرب الدائرة في سوريا والتي اندلعت بعد الحرب البولوبونيسية بآلاف السنين والأهوال التي عاشتها هي شخصيًا منذ عام 2011.

قالت ميساء وهي تجلس في مقهى صاخب في وسط عمان وتتذكر حياتها في دير بعلبة، ضاحية في مدينة حمص في وسط سوريا بعد اندلاع الحرب منذ ثلاث سنوات “إنها قصتي. أنا كاساندرا.”

مسرحية خالدة:

كانت الصحفية البريطانية شارلوت إيجر تغطي الصراع الدائر في البوسنة في عام 1992 عندما سمعت عن إنتاج عمل بعنوان “نساء طروادة” في الراديو.  تتذكر كيف أذهلها التشابه بين التجربتين التي عاشتها النساء في كل من طروادة والبوسنة.

قالت “اغتصاب وقتل ودمار وخراب – لقد كانت بالفعل مسرحية خالدة.”

بعد ذلك بسنوات، ألهمتها مأساة سوريا التي دمرتها الحرب أن تسترجع اهتمامها بالمسرحية؛ حيث قررت مع زوجها الكاتب ويليام سترلينج إعادة إنتاجها من خلال دمج تجارب اللاجئات السوريات.

بعد عرضها لأول مرة في عمان في أواخر العام الماضي، كان الزوجان يتمنيان تحويلها إلى فيلم يتم عرضه للجمهور في الخارج. كان من المزمع افتتاح العمل في الأسبوع الماضي في Myriad Voices Festival (مهرجان آلاف الأصوات)، وهو مشروع لمختبر الأداء العالمي والسياسية التابع لجامعة جورج تاون، لينتقل منها بعد ذلك إلى جامعة كولومبيا. لكن المسؤولين عن الهجرة في الولايات المتحدة الأمريكية رفضوا منح السوريات تأشيرة لدخول الولايات المتحدة خوفًا من بقائهن هناك وعدم عودتهن إلى الأردن، على الرغم من أن معظمهن لا يجدن اللغة الإنجليزية ولديهن أسر وأطفال صغار في الأردن.

انزعج من هذه الحادثة كل من الدبلوماسيين في الشرق الأوسط والمثقفين في واشنطن. فقد كتب أحد الصحفيين في مقال في واشنطن بوست “كان من المتوقع أن يكون هذا العرض من أكثر العروض الثقافية تأثيرًا في هذا الموسم”. وقالت سنثيا شنيدر، سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية السابقة لدى هولندا والرئيس المشارك لمختبر جامعة جورج تاون للأداء العالمي والسياسة للواشنطن بوست “إنها مأساة لأننا في الولايات المتحدة الأمريكية لا نسمع أصوات الشعب السوري. فلمن نستمع؟ للدولة الإسلامية المعروفة بداعش.”

في محاولة أخرى لقلب الحقائق من قبل الدبلوماسيين، قال مسئولو وزارة الخارجية إنه لم يكن من الواضح ما إذا كانت الأردن، والتي تغير دومًا من قوانينها الخاصة بالسوريين المتواجدين على أراضيها، ستسمح لهن بالعودة إلى أراضيها.

حاول المهرجان أن يعرض العمل بشكل مختلف. إذ افتتح في 19 ايلول/سبتمبر 2014 بعنوان “أصوات غير مسموعة – سوريا: قمة نساء طروادة”. وقد شهدت الفعالية تسجيلاً وثائقيًا ومناقشة حية مع ممثلات العرض ومخرجه السوري عمر أبو سعدة (من خلال البث المباشر على الإنترنت من عمان). واشترك خبراء السياسات والفنانون في حوار حول الواقع السياسي في المنطقة ودور الفن كقوة إنسانية مؤثرة.

أضافت شنيدر، وهي أيضًا أستاذة في الممارسة الدبلوماسية في جامعة جورج تاون “يحمل الفنانون مرآة للمجتمع والسياسات، ومن ثم يقدمون منظورًا مختلفًا عن التركيز السياسي والسياسات التي تسيطر على واشنطن؛ حيث يتحدى الفنانون التفكير التقليدي.”

بدوره، قال منتج العمل “لا يوجد قصة عالمية مثل نساء طروادة يمكن أن توضح قضية شائكة مثل قضية الحرب واللاجئين.”

وقالت إيجر “الحرب لا تختلف من مكان إلى آخر – تمقتها النساء ولكن عليهن في النهاية تحمل ويلاتها. تعتبر مسرحية نساء طروادة أول عمل أدبي يصور مأساة اللاجئين.”

خسارة كل شيء

قبل الحرب، كان والد ميساء أحمد يمتلك متجرًا لبيع الملابس في حمص ويعول من خلاله الأسرة. وكانت ميساء، خريجة كلية الشريعة، تحلم بالعمل كمدرسة.

في أحد أيام العام الماضي، جاء رجال من الميليشيات الموالية للحكومة إلى منزلها وطلبوا من أخويها الذهاب معهم لنقل الأرز وغيره من الأطعمة.

وأضافت ووالدتها تبكي بجوارها “وعدونا أن يطلقوا سراحهما، ولكنهم أخذوهما إلى مخزن وقتلوهما رميًا بالرصاص، فلم نرهم ثانيةً إلا في مقبرة جماعية.”

تنعي ميساء فقيديها – محاكية كاساندرا – نتيجة للصراع الذي أودى بحياة أكثر من 200000 سوري  وشتت الملايين وكلفها بيتها الذي احترق بكل ما فيه من ممتلكات كان أهمها كتبها.

استمرت نساء الأسرة في محاولة الاختباء حتى عبرن الحدود إلى شوارع عمان عاصمة الأردن المكتظة بساكنيها في أواخر العام الماضي. ومنذ ذلك الحين، يحاولن الحياة في الأردن مع أكثر من 593000 لاجئ سوري.

بعد قتل معظم الرجال في عائلتها، تحاول ميساء  كسب المال لدعم أسرتها وتحاول البحث عن وظيفة كمدرسة، ولكن لا يسمح للسوريين بالحصول على تصاريح عمل في الأردن. وأضافت مايسة “في الشتاء، وزعت علينا منظمة غير حكومية أغطية، ولكننا اضطررنا إلى بيعها لدفع إيجار السكن.”

اختيار نساء طروادة الحقيقيات

في الضواحي الشمالية لعمان حيث يسكن الكثير من السوريين، طافت عتاب عزام، المنتجة السورية التي تعيش في لندن، مع زملائها شوارع الأردن حيث يتجمع السوريين لتطلب مساعدة السيدات في أداء المسرحية.

في العام الماضي، كانت ميساء تقف في الصف منتظرة الحصول على الأنسولين لوالدتها في أحد المراكز المجتمعية في عمان؛ حيث قابلت عتاب واستمعت إلى عرضها الذي بدا لها غريبًا. وتتذكر عتاب هذه التجربة قائلة “لم نتوقع أن يقبل أحد بعرضنا، ولكن بعدها بأيام جاءنا 100 سيدة.”

https://www.bue.edu.eg/
من بروفات العرض في عمان/ الأردن 2013

لكن المشروع تعثر مرة أخرى؛ حيث لم تسمع أي من السيدات السوريات من قبل عن مسرحية “نساء طروادة” وبعضهن لا يعرف القراءة أو الكتابة. وكان التمثيل بطبيعة الحال تجربة جديدة تمامًا بالنسبة لأغلبهن. كما لم يكن من السهل عليهن الوثوق في أي شخص غريب واطلاعه على قصصهن ومعاناتهن الشخصية من الحرب وكيف فررن منها.

كما تعارض جدول العمل في البداية مع صراعاتهن اليومية. فعندما حضر بعضهن أولى البروفات بصحبة أطفالهن؛ حيث لم يتمكن من تركهن في البيت، أعد لهم القائمين على العمل حضانة أطفال مؤقتة. انتظمن بعد ذلك في حضور البروفات اليومية للعرض.  فقد أضفت هذه البروفات معنًا وبعدًا جديدًا لحياتهن. فلم يؤخرهن عن الحضور حتى الثلوج التي غطت عمان في كانون الأول/ديسمبر.

أتاحت ورش العمل الفرصة للسيدات للتحدث عن مآسيهن وأحزانهن. وقد وفر القائمون على العمل أخصائي نفسي للعمل مع هؤلاء السيدات. وقد دمج المخرج السوري سعدة تجاربهن في مسرحية يوريبيديس.

عن هذه التجربة، قال عمر “عندما بدأنا العمل ذهلنا من حجم التشابه بين الشخصيات في المسرحية اليونانية والقصص الشخصية لهؤلاء السيدات. فلقد أجبرن على الهرب من بلادهن وفقدن الكثير من أقاربهن.”

وقالت عتاب “كلما بذلن المزيد من الجهد في المسرحية، كلما أثمرت هذه الجهود. فلقد فقدن كل شيء، ولكن مشاركتهن في هذه المسرحية أعادت لهن الشعور بالسيطرة على حياتهن.”

كما منحهن هذا العمل الصحبة التي يفتقرن إليها في حياتهن. فقد كان شعورهن بالثقة في بعض الغرباء وتكوين صداقات ميزة لم يحلمن بها في الأردن.

قالت قمر، التي تبلغ من العمر 41 عامًا من درعا وهي من بين المشاركات في المسرحية “بعد مشاركتي في هذا العمل مع هؤلاء السيدات والتمثيل معهن على خشبة المسرح، أصبحن جزءًا من عائلتي.”

ولكن الأهم من ذلك كله أن هذا العمل أضفى بعدًا جديدًا لحياتهن مع كل الصعوبات التي يواجهونها يوميًا، فلقد بات هذا العمل متنفسًا لمخاوفهن وأحزانهن.

تتذكر ميساء  هذه التجربة قائلة “لقد كان الظهور على المسرح ورواية قصتي بصوت مسموع أمام الجمهور أمرًا شديد الصعوبة، ولكنني كنت أتشجع كل يوم مع البروفات، حتى جاء موعد العرض ونجحت.”

وقت رفع الستار

في أمسية باردة في مركز الأردن القومي للثقافة والفنون، جاء وقت العرض.

شاهد الجمهور العرض والتزموا الصمت عندما اعتلت السيدات المسرح وبدأن في تقديم العرض باللغة العربية لمسرحية يوريبيديس التي كتبها في القرن الماضي، هذا العمل اليوناني الكلاسيكي الممزوج بالذكريات الحديثة لهؤلاء السوريات.

لقد تقرر مصيرهن كسبايا. فبعدما دفنت حفيدها، أجبرت ملكة طروادة هيكوبا على ركوب سفن الغزاة. وفي محاولة فاشلة، تحاول أن تقتل نفسها بنيران مدينتها المحترقة ولكن دون جدوى؛ حيث ينجح الجنود اليونانيون في منعها.

قبل الكلمات الأخيرة لهيكوبا وإسدال الستار على هذه القصة المأساوية للمعاناة في الحرب التي تخطت حدود الزمان والمكان، تمتزج المأساة اليونانية بمثيلتها السورية، وتتحدث هيكابي من خلال إحدى اللاجئات السوريات.

تقول “يا إلهي أنا بائسة. أخيرًا أصل إلى نهاية أحزاني ومعاناتي حيث أترك بلدي وأراها من بعيد تتحول إلى رماد.”

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى