مقالات رأي

لماذا تركت “مهنة العمر”؟

درست الطب ولكنني قررت ممارسة العمل الصحفي. قد يبدو قراري ضرباً من الجنون ولكنني على يقين بأن تجربتي تتشابه مع تجارب الكثيرين من الشباب العربي الذين يعيشون صراعاً بين ما يرغبون بتحقيقه وما يفترضه مجتمعهم بأنه الأصلح لهم.

ربما يبدو من المفيد التحدث أولاً عن سبب التحاقي بكلية الطب والذي سيوضح أيضاً سبب تركي لها لاحقاً. 

في العراق، البلد الذي ولدت به – وربما في أغلب دول المنطقة – تشكل امتحانات الثانوية العامة حجر الأساس لمستقبل الطلاب المهني. إذ تحدد نتائجها الكلية التي سينضم إليها الطالب والتي سيتخرج منها لاحقاً لينضم إلى سوق العمل.

كما يسود الاعتقاد بأن الكليات ذات التخصص العلمي (كالطب والهندسة)هي الأفضل. قد يكون ذلك صحيحاً إلى حدّ ما بسبب قلّة نسب البطالة بين خرّيجي هذه التخصصات، فضلاُ عن النظرة الإجتماعيّة المتميزة لطلاب هذه الكليات. من جهة أخرى، تعاني باقي التخصصات – الإنسانية منها على وجه الخصوص- من نظرة إجتماعية أقل تقديراً حيث غالباً ما يلتحق به الطلاب من ذوي المعدلات الدراسية المنخفضة. أيضاً تتمتع معظم الكليّات العلمية – التي يطلق عليها البعض اسم كليات النخبة- بمستوى تدريسي متطور وجيد. بينما تعتمد باقي الكليات مناهج قديمة لا تلبي متطلبات سوق العمل وبالتالي ينضم معظم خريجيها إلى صفوف العاطلين عن العمل أو ليعملوا في مجالات لا تمت لدراستهم بصلة. 

على الصعيد الشخصي، كنت أعي منذ البداية حقيقة اهتماماتي المتمحورة حول الأدب والآثار والتاريخ والفن. كنت مولعا بقراءة الكتب منذ دراستي الإعدادية، وكثيرا ما راودني حلم القيام برحلات تنقيب إستكشافيّة أو دراسة علم الآثار. إلا أنه وبسبب النظرة الاجتماعية أولاً ومعرفتي بالواقع المتردي للتعليم في الكليات العراقية قررت استكمال دراستي في الفرع العلمي. 

حصلت على معدل عال في الثانوية العامة من دون أن أبذل جهداً استثنائياً للاستعداد للامتحانات، التي تقض مضجع غالبية الطلاب، فقد كنت طالباً متفوقاً منذ الإبتدائية. تمّ قبولي في كليّة الطب في جامعة بغداد وجامعة القاهرة، ولكنني ونظرا للأوضاع الأمنيّة السيئة في العراق في ذلك الوقت قرّرت التوجه إلى مصر. 

دراسة تخصص لم أحبه يوماً لم تكن بالأمر الهين، إذ كثيراُ ما فكرت بترك الكليّة خاصة في السنة الثالثة. إلا أن تشجيع الأصدقاء ورغبة أسرتي دفعاني لاستكمال دراستي في تخصص لم أتمناه يوماً.

لم تؤثر مشاعري السلبية تجاه دراستي على نتائج امتحاناتي. وكعادتي، كانت نتائجي في الامتحانات متقدمة دائماً مما أثار استغراب أصدقائي العارفين لمشاعري السلبية تجاه تخصصي الدراسي. وبناء على نصيحة البعض، بدأت بالتوجه للكتابة أكثر للتخفيف من توتري. أنشئت صفحة على الفيس بوك متخصصة بالفنون والموسيقى الكلاسيكيّة، وأخرى عن آثار وحضارة ما بين النهرين بالإضافة إلى كتابة بعض المقالات لمواقع الكترونيّة. 

كما أن اكتشافي لوجود عدد لا بأس به من الطلاب الذين يتشاركون معي في دراسة مالا يحبون ساعدني كثيراً. لم نكن أغلبية ولكننا لم أكن أيضاً استثناء. كان بعضنا يشعر أنه في المكان الغلط والبعض يعاني من صدمة نتيجة الاختلاف بين الصورة الذهنية التي كانت في رأسه وبين واقع ما يدرسه. إلا أننا لم نكن نجرأ على التراجع، خاصة وأن كثيرين تحملوا أعباء مالية إضافية للالتحاق بالكلية.

بعد ست سنوات، تخرجت من كلية الطب بتقدير”جيد جداً”. وعلى الرغم من عزمي عدم الاستمرار في تخصص الطب، إلا أنني وبدافع من أهلي التحقت بالتدريب العملي في كلية طب القصر العيني في القاهرة. 

بعد 15 يوماً من العمل في أوضاع مهنية متردية خاصة مع غياب الأمن بعد ثورة 25 يناير وكثرة الاعتداءات على الأطباء، اتخذت قراري النهائي بترك الطب بلاعودة والتوجه لتحقيق حلمي في أن أكون كاتبا صحفيّا وربّما معدّا لبرامج وثائقيّة عن التاريخ والآثار والثقافات مستقبلا.

لم يكن القرار سهلاً. إلا أنني شعرت بالراحة وأنا بعيد عن المشفى. بدأت بدراسة اللغة الألمانيّة والإنكليزيّة والتركيّة وحصلت على دروس لتعلّم العزف على البيانو. ولأنني لم أدرس الصحافة، فإن تجربتي مع الفنار للإعلام تساعدني على تطوير مهاراتي في الكتابة الصحفية حيث أحصل على توجيهات وملاحظات لتفادي الأخطاء. 

في النهاية، أعتقد أن النجاح لا يأتي من دراسة فرع دون آخر، بل يأتي من ممارسة ما نحبه. فالشغف هو الدافع الأكبر للنجاح. لقد عرفنا آرثر كونان دويل وألدوس هكسلي من خلال كتاباتهم لا من خلال عملهم كأطبّاء. كما نعرف تشارلز داروين من خلال عمله في علم الأحياء ونظريّته حول نشأة الإنسان والإنتخاب الطبيعي والتطوّر والتي خرج بها بعد تركه لدراسة الطب لتحقيق شغفه في دراسة علم الأحياء. ربّما كانت قصص نجاحات من طاردوا أحلامهم دافعا لي لإتّخاذ أهم قرار في حياتي. أنا أعتقد بصحّة ما يقوله لنا الفيلسوف الصيني كونفوشيوس،”إختر عملا تحبّه، ولن تجد نفسك مضطرّا للعمل يوما واحدا في حياتك.”

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى